الريع في قطاع البذور
لا نستطيع الحديث على أمن غذائي و إستقلال فلاحي إلا بتوفير الحد الأدنى من مستلزمات الإنتاج الفلاحي و هي البذور و الشتلات
قد لا يتخيل لنا اهمية البذور في تأمين التزويد و السيطرة على غلاء الأسعار إلخ…إلخ
في ظل الإهمال المتواصل لعقود و التراخي في إجراء الإصلاحات العاجلة في هذا القطاع كذلك تواصل إهدار المال من الدولة خدمة لصالح بعض اللوبيات اجتازت تونس في السنوات الماضية خطوط حمراء تنذر بالخطر .
حسب إحصائيات 2013 تنتج تونس اقل من 35% من حاجياتها الوطنية من خضراوات و بذور اخرى و اقل من 55% بالنسبة لبذور البطاطا و لحسن الحظ لازالت تغطي 90% من حاجيات الزراعات الكبرى بإنتاج 195.6 الف طن من الحبوب.
كما تورد تونس تقريبا 26الف طن من البذور بقيمة بلغت 97.3 مليون دينار .
تكون البذور الاجنبية الموردة عادة من الجيل الثالث أو الرابع أي لا يمكن استكثرها على المدى الطويل أو المتوسط في تونس لسوء المردودية كما أن التغافل او غياب المراقبة على الموردين يزيد الأمر سوءاً فقد تكبد عديد الفلاحين في أكثر من جهة خسائر كبيرة تتمثل إما في ضعف المردودية مثل ما حصل مع البطاطا أو إما إتلاف الصابة مثل ما حصل مع الفلفل و الباكورات في ولاية المنستير و الجلبانة و غيره من الخضراوات التي أصبحنا مجبرين على توريد بذورها في ظل غياب البذور الأصلية أو البذور الأم
حتى نكون واقعيين و عمليين حاولنا التركيز على الزراعات الكبرى حيث كانت تونس توفر 90% من حاجياتها من البذور إلا ان هذا القطاع ينزف و يتبع خطى القطاعات الأخرى في التدحرج و التبعية للخارج.
كانت تونس أول بلد إفريقي يتحصل على شهادة اعتماد من قبل المنظمة الدولية لتجارب الحبوب منذ سنة 1973 غير أن مخبر تحاليل البذور و الشتلات أصبح غير معتمدا من قبل المنظمة إبتداء من أول الثمانينات
علاوة على ذلك فإن مخبر تحاليل البذور و الشتلات و مخبر الحجر الزراعي لم يتحصل على شهادة الإعتماد العالمية رغم الأموال الطائلة التي أهدرت لتحديث النظام وتطويره أكثر من مرة
إن السياسات العمومية في هذا المجال لا تنم عن إرادة و جهود لتغيير و انقاذ من التبعية الغذائية و لا عن وعي أو احساس بأهمية هذه المسألة حتى الإستراتيجيات التي رسمتها الدولة لتحقيق حد ادنى يلبي حاجيات السوق تم كسرها بقرارات تثير الشك و تدخل الذعر و تدق ناقوس الخطر
منذ الاستقلال دأبت الدولة التونسية على توجيه الدعم فقط للبذور التونسية الممتازة التي يتم إستكثارها في تونس إلا أنه في 28 أوت 2020 في الفترة ما بعد إستقالة حكومة الفخفاخ و قبل تولي حكومة هشام المشيشي مهامها وقع تجاوز خطير لهذا المبدأ من خلال الامر الوزاري لأسامة الخريجي وزير الفلاحة خريج المدرسة الوطنية للفلاحة و الذي له علم بما يعانيه القطاع
يقر الأمر الوزاري بتعميم الدعم على كل البذور المستكثرة في تونس أي بما فيها الأجنبية منها. بعد التقصي و البحث تواصلنا إلا أن هذا القرار يخدم الشركة الموردة للبذور الخاصة الوحيدة وهي شركة “صوزيم” التابعة لمجموعة الوردة البيضاء لصاحبها كمال بلخيرية ما يطرح أكثر من سؤال حول النية الحقيقية من هذا القرار خاصة عندما نتعرف على علاقة هذا الأخير مع وزارة الفلاحة
شغل كمال بالخيرية عديد الكوادر الذين كانوا على رأس إدارات ومصالح عمومية أهمها ديوان الحبوب حيث انتدب أكثر من مدير عام ترأس الديوان كما يهمنا التذكير بأن السيد الحبيب الجملي الذي كان مقترح لترأس الحكومة كان يعمل صلب وزارة الفلاحة و كالعادة لا يذكر له أي نجاح في المناصب التي اوليت اليه حيث ترأس بديوان الحبوب خلايا البحوث التطبيقية ثم في سنة 1998 ترأس مصلحة مراقبة الجودة كما ساهم في تطبيقة إعتمدها الديوان ولم يتم إستعماله إلى اليوم منذ 1999. عمل كذلك على مشروع القمح الأمريكي قبل طرده و إستقالته من الوزارة و الإلتحاق بإحدى شركات بلخيرية ميديغران لتوريد الذرة التي كان ديوان الحبوب يعاني خسائر كبيرة في توريدها
كما تولى الحبيب الجملي منصب كاتب دولة بعد الثورة في وزارة الفلاحة في حكومة الترويكا على أساس مستقل مقرب من النهضة .
في 2019 إقترحه الحزب الاول في الإنتخابات التشريعية لتشكيل حكومة لم تحظى بثقة 109 من النواب .
تعيين السيد اسامة الخربجي على رأس وزارة الفلاحة قد يكون تواصل لنفس الخطة حيث أعطى إمتياز خيالي لرجل الأعمال بلخيرية بقراره هذا ، يمكنه بمزيد السيطرة على القطاع و يكون هذا القرار آخر مسمار يدق في نعش البذور التونسية التي كانت تنفرد بالدعم و بهذا يكون سعر بيعها معقول في السوق .
لم يتم التخلي على السيد لخريجي بعد إنتهاء حكومة الفخفاخ فقد تم تعيينه كمستشار برئاسة الحكومة في نفس الوقت تمت إقالة وزيرة الفلاحة السيدة البحري و اقتراحه مجددا وزيرا للفلاحة الا ان الحظ لم يسعفه لتأدية اليمين .
لا يشكل هذا القرار أول ضربة لقطاع البذور المحلية بل هي تكملة لمسيرة من التهميش
بدأت في منتصف الثمانينات و قد وضح تقرير محكمة المحاسبات لسنة 2016 مختلف هذه الممارسات و نذكر منها غياب استراتيجية وطنية في هذا المجال واقتصار مداولات اللجنة الفنية للبذور والشتائل على النظر في مطالب الترسيم والحماية دون التطرّق إلى مشاكل المنظومة والإجراءات الكفيلة بتطويرها
تطرق ايضا التقرير لتهميش دور بنك الجنات و تهميش البحث العلمي في مجال يحتاج الى بحث دائم حيث ان جودة البذور قد تتغير مع تغير خاصياتها الجينية عبر الزمن وهو ما يتطلب مجهود علمي و تطوير مستمر حتى تحافظ على جودتها و خصائصها الحميدة . إذن فمع غياب البحث و التطوير و المتابعة العلمية لجودة بذورنا الوطنية، فكان حتما مصير هذه الأخيرة فقدان مكانتها في السوق مقابل البذور الموردة.
ذكر ايضا التقرير تقلص المساحات المخصصة لاستكثار البذور المحلية بسبب التعقيدات الموجودة في كراس الشروط المنظم للقطاع اضافة الى الصعوبات التي تواجهها التعاضديات و التي كانت تشكل عمادا لمنظومة استكثار البذور قبل الثمانينات.
الفساد الذي ينخر التعاضديات و غياب الرقابة و إهمال البحث العلمي ودور بنك الجينات بتواطؤ السلطات المعنية كذلك غياب تحيين السجل الرسمي للأصناف النباتية كذلك طريقة و طاقة خزن البذور و تكييفها و تقلص مساحات استكثار البذور المحلية ضف إلى ذلك الإطار التشريعي لمنظومة البذور و الشتلات .. المشاكل عديد تكاد لا تحصى والسبب واحد: وجود إستراتيجية وطنية لخدمة لوبيات توريد البذور على حساب المصلحة العامة
أبرز لوبي يجدر ذكره هو مجمع بلخيرية الذي يمثل في تقديرنا وزارة فلاحة خاصة حيث يجبر هذا الأخير الفلاحين على التعامل معه من خلال تدخله في قطاع البذور عبر شركة “سوزام” والأدوية عبر شركة “صولاغري” و يشتري في ما بعد المحصول و ينقله إلى خزاناته حيث يستحوذ على أكثر من 50 % من طاقة التخزين الوطني ب 48 مركز تخزين إلى جانب كونه أحد ابرز المتدخلين في قطاعات الحبوب و الدواجن و الاعلاف و النشاطات المرافقة لها
في سنة 2021 قامت الدولة بخلاص المحصول من البذور الأجنبية كاريوكا
بسعر 85 د/قنطار رغم إرتفاع نسبة الرطوبة فيه وهو ما يدعو إلى رفض تسويقه من قبل سلطات الرقابة. من جهة أخرى حدد ثمن المحصول من البذور التونسية بسعر يتراوح بين 80 و 82د \ قنطار في تمييز واضح للبذور الاجنبية و لمجمع بلخيرية
كما تسهل الدولة على المجمع شراء القمح من الخزانات و تدعم نقله الى المطاحن التي يمتلكها المجمع لتحويله في مرحلة أولى و يتمتع بدعم ثاني لتحويله إلى مواد قابلة للاستهلاك مثل كسكسي أو مقرونة
كما يمتلك شركة توريد الذرة و هو مكون أساسي الأعلاف المركبة كما يمتلك معمل العلف المركب الذي يتحصل على الشعير و السداري المدعمين على حساب قيمة المقتنيات من ذرة و سوجا
بالتالي يجد الفلاح نفسه مجبرا للتعامل مع المجمع لضعف حاله و إستحالة الاقتراض من المؤسسات المالية المانحة ، مع وجود تسهيلات من المجمع في الدفع وهو ما يستغله المجمع لتسويق البذور المستوردة، ما يمثل سببا آخر الالتجاء الفلاحين اليها علاوة على ضعف التزويد بالبذور التونسية من القطاع العمومي و التعاضديات لتهاوي منظومة الاستكثار كما سبق و ذكرنا
نتوجه بالشكر لكل من قام بالبحث و التقصي لتقديم تقرير ممتاز نشرته محكمة المحاسبات في تقريرها السنوي لسنة 2016 يشير إلى وجود فاعلين في الدولة مدركين لاهمية مسالة البذور على الأمن الغذائي والسيادة الوطنية لكن للأسف و كما هو الحال بالنسبة لاغلب تقارير المحكمة بقيت هذه المقترحات حبرا على ورق
نستعير من التقرير المقترحات التالية على سبيل الذكر و لا الحصر:
تأهيل المخابر الرقابية التابعة للوزارة المكلفة بالفلاحة كي تصبح معتمدة
تدعيم الرقابة الذاتية على جودة بذور الحبوب العمل على تعميم إنتاج الشتلات المثبتة
إعطاء مكانة أكبر للبحث العلمي و توسيع صلاحيات معهد الزيتونة مع ضرورة توجيه البحث نحو تقييم الأصناف المحلية من البذور واستنباط أصناف جديدة مع إمكانية استعمال بعض الأصناف الأجنبية ذات القيمة العالية عبر إنتاجها مخبريا كبذور أم ومن ثم تطويرها باستعمال الأصناف المحلية المتأقلمة وذلك ضمن إستراتيجية مدروسة يتم تنفيذها على المدى المتوسط والبعيد ، كما أن مؤسسة البحث والتعليم العالي الفلاحي مدعوة إلى اعتماد برامج بحث إيلافية متلائمة مع الأولويات الوطنية وإلى إحكام متابعة هذه البرامج وتقييمها وتحديد المكاسب التي يمكن تثمينها وأخذها بعين الاعتبار عند صياغة برامج بحث جديدة
تعزيز دور الهياكل المعنية بالرقابة على المنظومة وآليات النهوض بها وذلك بإعداد إستراتيجية وطنية يقع فيها تشريك كافة المتدخلين ووضع الأطر اللازمة للتنسيق فيما بينهم بما يساهم في تحق
تكثيف مجهود بنك الجينات: فيما يتعلق بالموروث الجيني النباتي الوطني ، يتعين على البنك الوطني للجينات تكثيف جهوده لاسترجاع الأصناف التونسية الموجودة بالخارج وتجميع تلك المتواجدة بمعاهد البحث الوطني
تفعيل دور ديوان الأراضي الدولية في استكثار البذور المحلية الممتازة: تأهيل الأراضي الدولي لغاية الاستكثار و محاسبة كل من أهدر المال العام و أساء التصرف فيها لتساهم في الإستقلال الغذائي بإنتاج البذور و الشتلات و المستنبطات
وضع تراتيب وإجراءات واضحة لتكوين مخزون استراتيجي من بذور الحبوب لتأمين تزويد الفلاحين في إطار استراتيجية وطنية متكاملة
تضيف المنظمة إلى جانب هذه المقترحات:
الغاء الامر الوزاري المؤرخ في 28 أوت 2020 القاضي بدعم كل البذور المستكثرة محليا بما فيها البذور الاجنبية الموردة
تعهد مجلس المنافسة بقطاع بذور زراعة الحبوب على خلفية شبهة بيع مشروط في ما يتعلق بالبذور التي توردها شركة “صوزيم”
التحقيق في شبهة استغلال مفرط لوضعية هيمنة من قبل مجمع الوردة البيضاء و التي تسهلها الاندماجات العمودية التي قام بها في السنوات الأخيرة